📢 انتفاضة مبعسس: ما قبل الفكرة ورحلة إلى ما قبل الكود!
🧭 كيف تقرأ هذا المقال؟
هذا المقال لا يمنحك أجوبة جاهزة. هو دعوة لحفر الأسئلة.
إذا لم تخرج منه مشوّشًا أكثر… فأنت لم تقرأه حقًا.
“ويلٌ لأمةٍ تُعلّم أبناءها أن يحفظوا كيف يعمل المفتاح، ولا تُعلّمهم كيف صُنعت الأقفال!
أمةٌ تقدّس الكُتيّبات وتخاف من الورقة البيضاء، تعطي أبناءها دليل الاستعمال ولا تعلّمهم كيف يُولد الشيء من العدم!
أيها الناس، الحاسوب لم يكن يومًا آلة صماء، هو تجسيدٌ لفكرة، وتمثيلٌ لمنطق.” — مبعسس يمني
أرَّقني وأقض مضجعي سؤال:
كيف تشكل عصرنا الحوسبي اليوم؟ بل كيف أتت الأصول أصول العلم؟ ولِمَ أتت على هذه الهيئة؟
أود مسيرتها من لحظة الميلاد، بل من قبل لحظة الميلاد، قبل تكون نطفة وبعد أن كانت.لا أود تعلم لغة البرمجة، ولا الأصول، بل أود ما قبل فكرة لغة البرمجة بل ما قبل الفكرة ذاتها!، كيف ابتدعوا لغة من لا شيء،
الغور البعيد! — هكذا تبدأ انتفاضة مبعسس.
بئس المناهج التطبيقية
مناهج التطبيق السريع!
كل الناس اليوم تصرخ: “تعلم بايثون! احفظ HTML! استعمل ChatGPT!”
نعامل علوم الحاسوب كصندوق أدوات:
-
نفتح الصندوق نأخذ المطرقة، نضرب المسمار ثم نمضي…
ولم نسأل:
-
من صنع المطرقة قبل الضرب بها؟
-
كيف ابتدعها، ولِمَ جاءت على هذه الهيئة؟
-
هل المسمار الشيء الوحيد الممكن لذلك؟
-
عن الذي رأى البرق أول مرة وقال: هذا منطق؟
التدريب أم التفكير؟
نُدرَّب اليوم على البرمجة كما تُدرَّب الحيوانات في السيرك:
“افعل كذا… اضغط هنا… كرر الحركة عشر مرات…”
لكن:
-
هل يُدرَّب العقل؟
هل يُوقَظ الفكر ويفجر التساؤل؟
-
أم نُطفئه تحت أكوام التطبيقات الجاهزة؟
أنا لا أريد أن أكون مستعملًا بارعًا،
بل أريد أن أكون الهادم الأول للبديهيات، الذي يقف أمام الحاسوب ويسأله:
-
من أنت؟ كيف أتيت؟
-
ولماذا؟ وعلى أي أساس فكري؟
كيف نُعَلّم أبناءنا أن يبرمجوا دون أن نُفهمهم: ما البرمجة؟
المناهج اليوم تبني قوالبًا، تنشئ مقلدين لا مفكرين،
تصنع عمالًا، لا حالمين، تقول لهم: هكذا تُبرمج!
لكن لا تقول: لماذا وجدت البرمجة؟ ومن فكر بها أول مرة؟
أنا أرفض أن أكون بناءً لا يعرف ما يبني
أريد أن أكون من يضع الخريطة، من يزرع السؤالات في الأرض قبل أن يبدأ الحفر!
لا أحد يقول: كيف بني كل هذا؟ ومن أين أتى؟ وما الذي كان قبله؟
أعمق ما قد يقولونه كما في دورات علوم الحاسوب:
-
الحاسوب يفهم الأرقام لأنه يفهم النظام الثنائي,
لكن لا أحد يخبرك:
-
لِم النظام الثنائي لا الثلاثي؟
-
ولم الدارات البرقية صممت بتلك الهيئة؟
- ولم كل ما وصلنا وصلنا كان بتلك الهيئة؟
- وما الذي كان قبلها؟ كيف فكروا بها؟
لا يسألون تلك السؤالات ولا يريدونك أن تسأل، يزجرونك يتهمونك بالسخافة والخفة، يريدونك تابعًا للأمم، تقتات على رَجع المهيمن الغربي.
كفانا من مناهج تحفظ الجواب قبل أن تثير السؤال؟
كفانا من دروس تُشبه نشرات الأحوال الجوية:
🌤️ مشمسة، ممطرة 🌧️، عاصفة 🌩️. نريد مدارس تضع في يد الطالب العدَم، وتقول له: ابنِ منه كونًا!
نريده أن يفهم كيف يسكن البرق في الأسلاك، وكيف تنقلب النبضة إلى فكرة، وكيف تصير الفكرة نظامًا، وكيف يُولد النظام من حلمٍ في قلب رجل جالسٍ تحت شجرة!
نحو رحاب العلم
إن لم تفهم مقصدي فإني أقصد أمرًا يخرجنا من علم لأجل (سوق العمل) إلى (رحاب العلم) كله،
أقصد أن أعرف كيف ابتدعوا الأصول حتى نشارك أهل العلم علمهم،
والعلم صرح يُشيَّد حجرًا على حجر،
فالعلماء أناس عرفوا كل حجر، بل ومن قبل أول حجر: التربة،
ثم أول حجر وما علا وارتفع،
هكذا يُبنى العلم، وهكذا نكون أمة تصنع ما تريد ولا تأخذ من الأمم ما تريد!
✊ ثوار هتَكُوا ستار المستحيل!
🧠 يؤرقني: كيف لثلة من البشر، أحلامهم أكبر من زمانهم، أن يُشكّلوا العالم…
✨ ثلة أحلامها تستهزئ بحدود المناهج، أحلامها تقدمت أمام الزمن، وسبقت عقارب الساعة.
🔍 عرفوا كيف يولد الأصل (المفهوم) من رحم المجهول،
⚡ وجعلوا من الفكرة جسدًا من معدن، ونبضًا من برق electricity!
🛠️ هؤلاء لا يبنون بيتًا على خرائط غيرهم، بل يرسمون الأرض من جديد!
💭 انتقل الخيال من جمجمة فيلسوف إلى قلب معدن!
🧮 ليبنيز: أبو النظام الثنائي
🧓 ليبنيز رأى في النظام الثنائي لغة الخليقة
❓ لم يكن محاطًا بشاشات، ولا بآلات ضخمة ولا كُتيبات وتوثيقات، بل بسؤال:“هل يمكن أن تُختزل الخليقة إلى أعداد؟”
🔘 ورأى في الواحد والصفر سرًّا أزليًا، لا لأنّهما رمزان، بل لأنّهما تجريد الوجود ذاته:
-
1
: شيء -
0
: لا شيء
☯️ ثنائية الوجود والعدم، النور والظلمة، الواحد والصفر.
🔧 فابتدع النظام الثنائي لا لأنه عملي، بل لأنه فلسفي كنظرية كونية
🧠 كان يؤمن أن كل فكرة معقدة يمكن تحليلها إلى أبجدية بسيطة، وأن هذه الأبجديّة يمكنها أن تصف العالم.
📜 ما نستعمله اليوم في الحوسبة الرقمية هو إرث من حلمه، لا من حساباته.
🤖 تورينج: حدود العقل… على الورق!
🧠 آلان تورينج جاء فسأل سؤالًا ثوريًّا:
“ما الحدّ الأقصى لما يمكن أن تفكّر فيه آلة؟”
📄 لم يرد جوابًا جاهزًا… بل رسم آلة، على ورقة، وجعلها تفكّر!
قدّم أعظم سؤال في القرن العشرين: ما الذي يمكن حسابه؟ أنشأ آلةً نظرية -تُعرف اليوم
⚙️ آلة تورينج: اختراع نظري يقيس حدود العقل، رسم حدودًا للفكر نفسه!
🚫 أثبت أن هناك مسائل لا يمكن حوسبتها، فوسّع بذلك فهمنا للفكر، وحدود البرهان.
💣 في الحرب كسر شيفرة إنجما،
🎓 لكن انتصاره الأعظم كان على جبهة الفلسفة:
أعاد تعريف معنى “الذكاء”!
⏳ مضت سبعون سنة ويزيد على سؤاله:
“هل تستطيع الحواسيب التفكير؟”
والجواب؟… لا يزال معلقًا! لا جواب بعد!
👩💻 آدا لوفلايس: رقصة الأفكار بين التروس
هب أنك في عالم لا حواسيب فيه ولا برمجة، ثم يظهر مجنون يقول: سأبتدع لغة تفهمها الآلات!
كيف؟ بأي أدوات؟ بأي منطق؟
هذا ما فعلته آدا لوفلايس أول مبرمجة
🎻 آدا لم تُرد أن “تكتب برنامجًا”، بل أرادت أن:
تصف كيف يمكن للفكرة أن ترقص بين التروس!
رأت الأنغام والآلة تلحنها، قبل أن يبتدع العالم آلة واحدة قادرة على ذلك!
🧬 ابنة الشاعر لورد بايرون، كتبت شِعرًا ليس كأي شعر، بل كان شِعر الآلة!.
🔩 حين نظرت إلى آلة باباج التحليلية، لم ترَ تروسًا، بل عقلًا،
📝 وكتبت أول خوارزمية عرفها التاريخ — ليس لتنفيذها، بل لتُثبت أن
الأفكار قابلة للتدوين بلغة تفهمها الآلة!
🧠 كانت تدافع عن فكرة ثورية:
✨ الآلة يمكن أن تُبدع… إذا زُوّدت بالفكر!
📡 شانون: ابو العصر الرقمي
❓ لم يبدأ كلود شانون من السلك، لم يقل كيف تنتقل الإشارة، بل من سؤال:
“ما هي المعلومة؟ومنه وُلد عصر الاتصال الرقمي كله!”
📐 فابتدع نظرية المعلومات، بسؤاله الآنف، ووضع قوانين قياسها كما نقيس الكتلة والزمن.
💡 أدرك أن الحوسبة لا تتعلّق بالإلكترون، بل:
-
📊 الاحتمال
-
🧠 المعنى
-
🔤 الترميز
🌐 من أفكاره وُلد:
-
الشابكة Internet الإنترنت 🌍
-
الاتصالات 📞
-
الضغط والترميز 🔒
هؤلاء لم يكتبوا سطور كود، بل كتبوا معاني جديدة للكون! من السؤال تبدأ الثورة، ومن الحلم يُبنى العلم.
🔥 العلم ليس حفظًا… بل تمردًا!
💡 هؤلاء العظماء لم يقرؤوا مناهج جاهزة، بل كتبوا المناهج بأنفسهم!!
⚙️ هم لم يتبعوا القواعد… بل اخترعوا القواعد!
أما نحن؟
-
🎭 نُقلِّد بلا روح
-
🧠 نبرمج بلا أسئلة
-
😨 نخشى أن تحلم كما خشي عصرهم أحلامَهم!
❓ لماذا نرضى أن نكون عُمّال بناء في قصر لم نخططه؟
👨🏫 أريد مُعلّمًا يُقلق الجهل المُريح ويهزه بسؤال: ما قبل الحاسوب؟…
-
لا يُلقي الدروس في قاعة مملّة
-
لا يبدأ من محرر النصوص
Editor
-
بل يأخذني إلى كهف أفلاطون
🌫️ إلى زمن لم تكن فيه لغة
🌪️ ثم نبدأ معًا: من العدم، من الصفر، من الغبار، من الصمت…
🔥 أحلم بمعلّم لا يحمل كتبًا، بل يحمل نارًا، يُشعلها في العقول ويقول:
“هيا نبدأ من حيث لم يبدأ أحد!”
-
⏳ يأخذني إلى زمن لا حواسيب فيه
-
⚡ لا كهرباء ” أنا في اليمن وتحقق نصف حلمي“
-
🪨 فقط عقل، وفكرة، وغبار
🛠️ ثم يقول: اصنع كل شيء من لا شيء:
-
🧠 اصنع حاسوبك من فكرة
-
🔤 اصنع لغتك من صمت
-
🐜 اصنع خوارزميتك من رقصة نملة!
✨ ذلك هو المعلّم الحقيقي الذي أحلم به…
ذلك المعلّم لا يُدرّس… بل يقدح شرارة في القلب!
-
الذي يُعلمني أن أخترع الآلة قبل أن أتعامل معها
-
يُوقظ فيّ الرغبة في الفهم لا الحفظ
-
يدفعني إلى أن أُشكّل المفاهيم لا أن أستهلكها!
- نريد أن نفهم، أن نبتكر.
📢 لقد تعبنا يا قوم… وتعبت الأمة من حالها!
آن لنا أن نتمرد على التعليم البارد
آن لنا أن نُشعل الفكرة!
🧭 الإنسان يخرق المجهول!
عجيبٌ الإنسان والله
وما زلت أتساءل كيف وقف أول إنسان أمام البحر وما الذي فكر به؟
يقفُ أمام المجهول فلا يولّي وجهه، بل يحدّق فيه طويلاً،
ومع ذلك… يخطو نحوه، كأن في داخله يقينًا بأن:
🎯 المعرفة تستحق المغامرة
🔥 والحياة الحقة لا تُنال إلا بتجاوز المخوف!
🌟تأمّل أوّل من وقف على شاطئ البحر!
ماء يبتلع الأفق ويخفي في جوفه أسرارًا لا تُحصى. أي قلبٍ ذاك الذي قال: سأعبر؟
-
أي روحٍ تلك التي آثرت خوض المجهول على الركون للمعلوم؟ 🕊️
-
أي جنونٍ ذاك… ما الذي دار في خلده؟ 😵💫
إنه أمرٌ لا يُفهم بالعقل وحده، فيه شيء من الجنون، شيء من الحلم، وشيء من التمرّد على حدود الأرض،.
🌍 فالإنسان لا يرضى أن يُحاصر!
لا بالمكان 📍 ولا بالجهل 📚 ولا بالخوف 😨
تلك هي طبيعته ولهذا ما زال يعبر البحار، ويصعد إلى السماء، ويغوص في أعماق الذرة.
كلُّ خطوة في تاريخ الإنسان كانت: 🔓 خرقًا للمجهول!
-
🔥 حين اكتشف النار… لم يكن يعلم: إن كانت ستحرقه أم تُنقذه من البرد؟
-
🗣️ حين نطق أول كلمة… لم يكن يعرف: هل ستُفهم؟
-
🎨 حين رسم على جدران الكهوف… كان يحاول أن يقول شيئًا للغد، للغائب، لنا.
غريبٌ هذا الكائن، يَعرف أنه فانٍ، ضعيف، ثم يصرّ على أن يخلّد شيئًا منه: فكرة، أثر، حضارة، قارب يتحدى البحر.
كأنّ في داخله نداءً لا يسكت، يقول له: “لا تقف حيث أنت. لا تركن إلى المعلوم. المجهول جزءٌ منك، فانطلق نحوه”.
وهذا ما فعله هؤلاء العلماء، خاضوا في المجهول وهتكوا حُجبه، أحدثوا ثورة بأفكارهم وخرقوا المستحيل، ولهذا ذكرتهم فمن هؤلاء نتعلم.
🧠🔥 إلى كل مبعسس… هذه انتفاضتنا!
✊ نكتبُ هذه الانتفاضة إلى أولئك الذين:
ضاقت أرواحهم بالمناهج التي تُلقّن ولا تُلهم 📚😤
تُبرمج ولا تُفكر 🧾🤖
تُدرّب ولا تُخترع 🛠️🚫
ليست دعوة لرفض التعلّم، بل لرفض التعلّم المعلّب، المغلّف، البارد.
هي تمرّد على عصرٍ يريدك “مُشغّلًا للبرامج” بدل أن تكون صانعًا للبرمجة.
💔 إلى من سئموا التعلّم كأنهم في حظيرة أدوات…
-
ويبحثون عن المعنى كما يبحث العاشق عن أول نظرة 💘👀
❗ هذا ليس دليلًا لتعلم لغة برمجية
بل دعوة للتمرّد الفكري
للتفكير كما يفكر المخترعين، المبدعون، المجانين…🔄 من العدم… نحو الدهشة!
🧪 في “مبعسس” لسنا كالآخرين
-
🧬 لا ندرب العقول على الطاعة بدل الإبداع، ندربها على أن تفهم قبل أن تُقلد.
نحن نبدأ من:
-
🧱 المبادئ الأولى، لا من فروع التخصّصات❌.
-
❓ السؤال المحرّم
🧨 لا نرضى أن نُساق!
بل نريد أن نعرف:
من الذي ساق الجميع ولماذا؟ ولماذا سلكوا هذا الطريق؟ وما البديل؟ 🤯
إننا لا نبحث عن برمجة تبدأ من الصفر، بل من لحظة يشعل فيها الإنسان أول شرارة في مخيلته:
نحن لا نبدأ من Hello, World!
بل من سؤال:
هل يمكن للفكرة أن تأخذ شكلًا؟ 💡
هل يمكن للعقل أن يُصنع؟ 🧠⚙️
🔥 لسنا موزّعي تعليمات… نحن مشعلو نار!
نحن لا نزجر السائل بل:
-
نُشجع الأسئلة المجنونة 🤪❓, نزرع الشكّ ونُقلق اليقينيات 🧨🧠
-
نحتفي بكل من يسأل:
“لماذا لا نبرمج بلغة الطين؟” 🧱🧑💻
فنرد عليه:
✅ جرّب! أرِنا! أبدع!
⏳ بداية سلسلة فريدة من نوعها…
🚀 هذه شرارة نقدح بها سلسلة قادمة عن علوم الحاسوب، سلسلة تأخذك في رحلة طويلة في أزقة التاريخ، بدءًا من العالم ليبنيز وانتهاءً بعلماء القرن العشرين حتى نرى عصرنا اليوم كيف تشكل، ثم نبني حاسوبًا بأيدينا لا لأننا سنبيعه، بل لأننا نريد أن نفهمه!
ختامًا لا تنسونا من دعائكم 
لا تنسوا الدعاء لكل من ساهم في “عجن وخبز” هذه المقالة،
ولا تنسوا إخوانكم في فلسطين ، فهم بحاجة لدعواتكم ومواقفكم.
يلٌ لأمةٍ تُعلّم أبناءها أن يحفظوا كيف يعمل المفتاح، ولا تُعلّمهم كيف صُنعت الأقفال!
أمةٌ تقدّس الكُتيّبات وتخاف من الورقة البيضاء، تعطي أبناءها دليل الاستعمال ولا تعلّمهم كيف يُولد الشيء من العدم!
أيها الناس، الحاسوب لم يكن يومًا آلة صماء، هو تجسيدٌ لفكرة، وتمثيلٌ لمنطق.
أرَّقني وأقض مضجعي سؤال: كيف تشكل عصرنا الحوسبي اليوم؟ بل كيف أتت الأصول أصول العلم؟ ولِمَ أتت على هذه الهيئة؟
أود مسيرتها من لحظة الميلاد، بل من قبل لحظة الميلاد، قبل تكون نطفة وبعد أن كانت.
لا أود تعلم لغة البرمجة، ولا أود الأصول، بل أود ما قبل فكرة لغة البرمجة، كيف ابتدعوا لغة من لا شيء، الغور البعيد!
بئس المناهج التطبيقية
كل الناس اليوم تصرخ: “تعلم بايثون! احفظ HTML! استعمل ChatGPT!”
نعامل علوم الحاسوب معاملة صندوق الأدوات، نفتح الصندوق نأخذ المطرقة، نضرب المسمار ونمضي، ولم نسأل: من صنع المطرقة قبل الضرب بها، ولا كيف ابتدعها؟ ولِمَ جاءت على هذه الهيئة؟ ولا هل المسمار الشيء الوحيد لذلك؟
ولا عن الذي رأى البرق أول مرة وقال: هذا منطق!
نُدرَّب اليوم على البرمجة كما تُدرَّب الحيوانات في السيرك:
افعل كذا… اضغط هنا… كرر هذه الحركة عشر مرات…
لكن، هل يُدرَّب العقل؟ هل يُوقَظ الفكر ويفجر التساؤل؟
أم نُطفئه تحت أكوام “التطبيقات الجاهزة”؟
أنا لا أريد أن أكون مستعملًا بارعًا،
بل أريد أن أكون الهادم الأول للبديهيات،
الذي يقف أمام الحاسوب ويسأله: من أنت؟ كيف أتيت؟
كيف نُعَلّم أبناءنا أن يبرمجوا دون أن نفهمهم: ما البرمجة؟
المناهج اليوم تبني قوالبًا، تنشئ مقلدين لا مفكرين،
تصنع عمالًا، لا حالمين، تقول لهم: هكذا تُبرمج!
لكن لا تقول: لماذا وجدت البرمجة؟ ومن فكر بها أول مرة؟
أنا أرفض أن أكون بناءً لا يعرف ما يبني.
أريد أن أكون من يضع الخريطة، من يزرع السؤالات في الأرض قبل أن يبدأ الحفر!
لا أحد يقول: كيف بني كل هذا؟ ومن أين أتى؟ وما الذي كان قبله؟
أعمق ما قد يقولونه كما في دورات علوم الحاسوب: “الحاسوب يفهم الأرقام لأنه يفهم النظام الثنائي”، لكن لا أحد يخبرك: لِم النظام الثنائي لا الثلاثي؟ ولم الدارات البرقية صممت بتلك الهيئة؟ ولم كل ما وصلنا وصلنا كان بتلك الهيئة؟ وما الذي كان قبلها؟ كيف فكروا بها؟
لا يسألون تلك السؤالات ولا يريدونك أن تسأل، يزجرونك يتهمونك بالسخافة والخفة، يريدونك تابعًا للأمم، تقتات على رجِع المهيمن الغربي.
كفانا من مناهج تحفظ الجواب قبل أن تثير السؤال،
كفانا من دروس تُشبه نشرات الأحوال الجوية:
مشمسة، ممطرة، عاصفة.
نريد مدارس تضع في يد الطالب العدَم، وتقول له: ابنِ منه كونًا!
نريده أن يفهم كيف يسكن البرق في الأسلاك، وكيف تنقلب النبضة إلى فكرة، وكيف تصير الفكرة نظامًا، وكيف يُولد النظام من حلمٍ في قلب رجل جالسٍ تحت شجرة!
إن لم تفهم مقصدي فإني أقصد أمرًا يخرجنا من علم لأجل (سوق العمل) إلى (رحاب العلم) كله، أقصد أن أعرف كيف ابتدعوا الأصول حتى نشارك أهل العلم علمهم، والعلم صرح يُشيَّد حجرًا على حجر، فالعلماء أناس عرفوا كل حجر، بل ومن قبل أول حجر، التربة، ثم أول حجر وما علا وارتفع، هكذا يُبنى العلم، وهكذا نكون أمة تنصع ما تريد ولا تأخذ من الأمم ما تريد!
ثوار هتَكُوا ستار المستحيل!
زيؤرقني كيف لثلة من البشر أحلامهم أكبر من زمانهم أن يشكلوا العالم…
ثلة أحلامها تستهزئ بحدود المناهج، أحلامها تقدمت أمام الزمن، وسبقت عقارب الساعة. عرفوا كيف يولد الأصل (المفهوم) من رحم المجهول، وكيف تصبح الفكرة جسدًا من معدن ونبضًا من برق electricity!
هؤلاء لا يبنون بيتا على خرائط غيرهم، بل يرسمون الأرض من جديد! انتقل الخيال من جمجمة فيلسوف إلى قلب معدن!
ليبنيز رأى في النظام الثنائي لغة الخليقة، تورينج حول الورق إلى آلة، آدا عزفت الأنغام من أصفار وواحدات.
العالم ليبنيز أبو النظام الثنائي لم يكن محاطًا بشاشات، ولا بآلات ضخمة ولا كُتيبات وتوثيقات، بل كان محاطًا بالسؤال: ”هل يمكن أن تُختزل الخليقة إلى أعداد؟“
ورأى في الواحد والصفر سرًّا أزليًا،
لا لأنّهما رمزان،
بل لأنّهما تجريد الوجود ذاته: شيء… ولا شيء.
فابتدع النظام الثنائي، لا لأنه عملي، بل لأنه فلسفي: ثنائيات الوجود والعدم، النور والظلمة، الواحد والصفر. كان يؤمن أن كل فكرة معقّدة يمكن تحليلها إلى أبجديّة بسيطة، وأن هذه الأبجديّة يمكنها أن تصف العالم. ما نستعمله اليوم في الحوسبة الرقمية هو إرثٌ من حلمه، لا من حساباته.
ثم جاء تورينج، فسأل سؤالًا ثوريًّا:
”ما الحدّ الأقصى لما يمكن أن تفكّر فيه آلة؟“
لم يرد جوابًا جاهزًا،
بل رسم آلة، على ورقة، وجعلها تفكّر!
قدّم أعظم سؤال في القرن العشرين: ما الذي يمكن حسابه؟ أنشأ آلةً نظرية -تُعرف اليوم بآلة تورينج- لا لتُنفّذ، بل لتقيس حدود العقل، رسم حدودًا للفكر نفسه! أثبت أن بعض المسائل لا يمكن حوسبتها، فوسّع بذلك فهمنا للفكر، وحدود البرهان. في الحرب، كسر إنجما، لكن انتصاره الحقيقي كان على جبهة الفلسفة: لقد أعاد تعريف معنى “الذكاء”!
مضت سبعون سنة ويزيد على سؤاله: (هل تستطيع الحواسيب التفكير؟)، ولا جواب بعد!
هب أنك في عالم لا حواسيب فيه ولا برمجة، ثم يظهر مجنون يقول: سأبتدع لغة تفهمها الآلات!
كيف؟ بأي أدوات؟ بأي منطق؟
هذا ما فعلته آدا لوفلايس أول مبرمجة، لم تُرد أن “تكتب برنامجًا”، بل أرادت أن تصف كيف يمكن للفكرة أن ترقص بين التروس! رأت الأنغام والآلة تلحنها، قبل أن يبتدع العالم آلة واحدة قادرة على ذلك!
آدا لوفلايس ابنة الشاعر لورد بايرون، كتبت شِعرًا ليس كأي شعر، بل كان شِعر الآلة! حين نظرت إلى آلة باباج التحليلية، لم ترَ تروسًا، بل عقلًا. كتبت أول خوارزمية في التاريخ، ليس لتنفيذها، بل لتُثبت أن الأفكار يمكن أن تُدوّن بلغة مفهومة للآلة! كانت تدافع عن فكرةٍ ثورية: أن الآلة يمكن أن تُبدع، إذا زُوّدت بالفكر!
شانون: لم يبدأ من السلك، لم يقل كيف تنتقل الإشارة، بل من سؤال: ما “المعلومة”؟ ومنه وُلد عصر الاتصال الرقمي كله!
كلود شانون الرجل الذي نقلنا من عصر الكهرباء إلى عصر المعلومة، ابتدع نظرية المعلومات بسؤاله الآنف، ووضع قوانين قياسها كما نقيس الكتلة أو الزمن. أدرك أن الحوسبة لا تتعلّق بالإلكترون، بل بالمعنى، بالاحتمال، بالترميز. من شانون وُلدت الشابكة Internet، والضغط والاتصالات والترميز.
العلم ليس حفظًا… بل تمردًا!
هؤلاء العظماء لم يقرؤوا مناهج جاهزة
بل كتبوا المناهج بأنفسهم!
هم لم يتبعوا القواعد،
بل اخترعوا القواعد!
أما نحن؟
نُقلِّد بلا روح،
نبرمج بلا أسئلة،
نخشى أن تحلم كما خشي عصرهم أحلامَهم!
لماذا نرضى أن نكون عمال بناء في قصر لم نخططه؟
أريد مُعلّمًا يُقلق الجهل المُريح ويهزه بسؤال: ما قبل الحاسوب؟
يأخذني معه، لا إلى محرر النصوص editor،
بل إلى كهف أفلاطون،
إلى زمن لم تكن فيه لغة،
ثم نبدأ معًا: من الصفر، من الغبار، من الصمت…
أحلم بمعلّم لا يحمل كتبًا، بل يحمل نارًا، يُشعلها في العقول، ويقول: هيا نبدأ من حيث لم يبدأ أحد!
يأخذني إلى زمن لم يكن فيه حاسوب ولا كهرباء،
ثم يقول:
اصنع حاسوبك من فكرة،
اصنع لغتك من صمت،
اصنع خوارزميتك من رقصة نملة!
ذلك المعلّم لا يُدرّس،
بل يقدح شرارة في القلب!
ذلك هو المُعلّم الذي أحلم به…
الذي يعلمني أن أخترع الآلة قبل أن أتعامل معها!
نريد أن نفهم، أن نبتكر، أن نشكّل المفاهيم لا أن نستهلكها.
تعبنا يا قوم، وتعبت الأمة من حالها
الإنسان يخرق المجهول!
عجيبٌ الإنسان والله
وما زلت أتساءل كيف وقف أول إنسان أمام البحر وما الذي فكر به؟
يقفُ أمام المجهول فلا يولّي وجهه، بل يحدّق فيه طويلاً، ثم يخطو نحوه كأنّما في داخله يقينٌ بأن المعرفة تستحق المغامرة، وأن الحياة الحقة لا تُنال إلا بتجاوز المخوف.
تأمّل أوّل من وقف على شاطئ البحر، ماء يبتلع الأفق ويخفي في جوفه أسرارًا لا تُحصى. أي قلبٍ ذاك الذي قال: سأعبر؟
أي روحٍ تلك التي آثرت خوض المجهول على الركون للمعلوم؟ ما الذي دار في خلده؟
إنه أمرٌ لا يُفهم بالعقل وحده، فيه شيء من الجنون، شيء من الحلم، وشيء من التمرّد على حدود الأرض، فالإنسان لا يرضى أن يُحاصر، لا بالمكان، ولا بالجهل، ولا بالخوف.
تلك هي طبيعته ولهذا ما زال يعبر البحار، ويصعد إلى السماء، ويغوص في أعماق الذرة.
كل خطوةٍ في تاريخ الإنسان كانت خرقًا للمجهول!
حين اكتشف النار لم يكن يعلم إن كانت ستحرقه أم تنقذه من البرد، حين نطق أول كلمة، لم يكن يعرف إن كانت ستُفهم، حين رسم على جدران الكهوف، كان يحاول أن يقول شيئًا للغد، للغائب، لنا.
غريبٌ هذا الكائن، يَعرف أنه فانٍ، ضعيف، ثم يصرّ على أن يخلّد شيئًا منه: فكرة، أثر، حضارة، قارب يتحدى البحر.
كأنّ في داخله نداءً لا يسكت، يقول له: “لا تقف حيث أنت. لا تركن إلى المعلوم. المجهول جزءٌ منك، فانطلق نحوه”.
وهذا ما فعله هؤلاء العلماء، خاضوا في المجهول وهتكوا حُجبه، أحدثوا ثورة بأفكارهم وخرقوا المستحيل، ولهذا ذكرتهم فمن هؤلاء نتعلم.
إلى كل مبعسس
نكتبُ هذه الانتفاضة إلى أولئك الذين ضاقت أرواحهم بالمناهج التي تُلقّن ولا تُلهم، تُبرمج ولا تُفكر، تُدرّب ولا تُخترع.
إلى من سئموا التعلّم كأنهم في حظيرة أدوات، ويبحثون عن المعنى كما يبحث العاشق عن أوّل نظرة. هذا ليس دليلًا لتعلّم لغة، بل دعوة إلى التفكير كما يفكر المخترعين المبدعين والمجانين: من العدم، نحو الدهشة!
نحن في معبسس لا ندرب العقول على الطاعة بدل الإبداع، ندربها على أن تفهم قبل أن تُقلد، أن تسأل قبل أن نُطيع، أن تبدأ من المبادئ الأولى، لا من فروع التخصّصات.
ندربها على السؤال المحرم!
لا نرضى أن نُساق، بل نريد أن نعرف من الذي ساق الجميع ولماذا، إننا لا نبحث عن برمجة تبدأ من الصفر، بل من لحظة يشعل فيها الإنسان أول شرارة في مخيلته: هل يمكن للفكرة أن تأخذ شكلًا؟ هل يمكن للعقل أن يُصنع؟
نحن مشعلو نار، لا موزّعو تعليمات، لا نزجر السائل ومصير على السؤالات المجنونة ونشجعها، نزرع الشك ونقلق اليقينيات!
وإذا قال أحدهم: “لماذا لا نبرمج بلغة الطين؟”
نقول له:جرّب، أرِنا! أبدع!
هذه شرارة نقدح بها سلسلة قادمة عن علوم الحاسوب، سلسلة تأخذك في رحلة طويلة في أزقة التاريخ، بدءًا من العالم ليبنيز وانتهاءً بعلماء القرن العشرين حتى نرى عصرنا اليوم كيف تشكل، ثم نبني حاسوبًا بأيدينا لا لأننا سنبيعه، بل لأننا نريد أن نفهمه!