الحمد لله الذي علّم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يعلم، وجعل للعلم أوعية تُحفظ فيه، وجعل لكل زمان أدواته، ولكلّ طالب علمٍ ما يسعفه ويعينه. برنامج اليوم برنامج تدوين ملاحظات note taking نافع لكل أحدٍ، طالب علم وغيره من الخلق، فهو مَخزن الفكر ودفتر السر، استعملته دهرًا وما زلت، فكل مقال كتبته في مبعسس كان به، فهو مستودعٌ أرمي خواطري إليه وكل ما أقرأ وما أنتفع منه أسجله به، وليس بخفيٍّ عليك أيها القارئ ما لعظيم تقييد الخواطر من شأن لا سيما لطالب العلم، وأقول (تقييد) لأننا نحن العرب المسلمون نقول: (تقييد)، وقد نسب إلى الشافعي بيتين:
العلم صيد والكتابة قيدُهُ
قيد صيودك بالحبال الواثقهْ
فمن الحماقة أن تصيد غزالةً
وتتركها بين الخلائق طالقهْ
وقد قيل: (العلم صيد والكتابة قيد، وإذا ضاع القيد ذهب الصيد)، فقد شبهوا العلم بالصيد فإن لم تقيد صيدك فرّ منك، وهذا ملاحظ عند الدراسة والقراءة فإذا لم نكتب ونُلخِّص نسينا ما تعلمنا وقرأنا، ورحم الله الخليل بن أحمد إذ قال: (ما كُتِبَ قرّ، وما حُفِظَ فَرّ).
وليس التقييد بحكرٍ على طالب العلم دون غيره، فما أكثر الخواطر التي تأتينا ونتشاغل عنها فتذهب فنتحسر عليها، وهذا الإمام ابن الجوزي يقول في أول كتابه (صيد الخاطر) يتأسف عما نسيه:
لما كانت الخواطر تجول في تصفح أشياء تعرض لها، ثم تعرض عنها فتذهب، كان من أولى الأمور حفظ ما يخطر، لكي لا ينسى. وكم قد خطر لي شيء، فأتشاغل عن إثباته، فيذهب، فأتأسف عليه! ورأيت من نفسي أنني كلما فتحت بصر التفكر، سنح له من عجائب الغيب ما لم يكن في حساب، فانثال عليه من كثيب التفهيم ما لا يجوز التفريط فيه، فجعلت هذا الكتاب قيدًا لصيد الخاطر، والله ولي النفع، إنه قريب مجيب.
وللناس طرائق في تقييد خواطرهم (تدوين أفكارهم)، وكُلٌّ ابتدع لنفسه مذهبًا وسلك مسلكًا، وسأحدثك اليوم عن طريقة رجل أعجمي ألماني في التقييد، لأن برنامج اليوم يتبع طريقته، والتقديم بها أحسن وأتم للفائدة، وإن اتبعت نهجه رأيت النفع إن شاء الله.
طريقة Zettelkasten

الطريقة من ابتداع أهل الألمان، ابتدعها الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني نيكلاس لومان، إذ كان غزير الانتاج، نشر خمسين كتابًا وما يزيد عن ستمئة مقالة والكثير، وكان سر غزارة انتاجه هذه الطريقة. معنى اسم هذه الطريقة (خزانة القصاصات)، وفحوى الطريقة أن تجزئ المعارف إلى شذرات، كل شذرة في قصاصة، يسمونها في الألمانية Zettel، ولكل شذرة أو قصاصة عنوان يميزها عن غيرها، وكل قصاصة فكرة واحدة مستقلة بنفسها، لا يشوبها غيرها، كالجوهرة الفريدة في صندوقها.
ثم إن هذه القصاصات تُربط بعضها ببعض بروابط، كما تتصل حلقات السلسلة، فلكل قصاصة صِلات وأنساب مع أخواتها، تُشير إليها، فتغدو المعارف كلها كالشجرة الباسقة، لها جذع وأغصان وأوراق، وهذا العجيب في الطريقة!
فما يميز طريقته عن سائر الطرائق كانت العلاقات، أي يربط بين الملاحظات، فما يهمه كان الربط وليس تجميع الملاحظات، وهذا بون شاسع بين هذه الطريقة وغيرها، فهي طريقة تشعب، تكوِّن شبكة من الملاحظات المتلاحمة المتصلة. وهذا أول مطلب في الطريقة، التشعب والترابط، ويقتضي أن تكون الملاحظات موجودة ثم تربط بينها، وكل ملاحظة قلنا اسمها zettel وتعني قصاصة. الربط والتشعب يجعل العقل يسبح في بحر المعرفة كالسمك في الماء، ينتقل من فكرة إلى أختها بيُسرٍ وسلاسة، فإذا ما خطر لك خاطر، أو عنَّت لك فائدة، سارع إلى تقييدها في قصاصة، ثم صلها بما يناسبها من القصاصات.
أما ثاني مطلب أن تكون كل ملاحظة فكرة واحدة واضحة، مثلًا الكتب مقسمة إلى أبواب وفصول، ولكل فصل أو باب رقم صفحة يسهل الوصول إليه، لكنك لا تسطيع أن تشير إلى مكان الفكرة الفلانية الكتاب وتقول لي افتح الصفحة الفلانية وستفهم، لا، لأن الفكرة قد تمتد على طول صفحات وفصول، بل قد تمتد على طول الكتاب وعليك قراءة الكتاب كله لتفهم الفكرة. لكن في هذه الطريقة على الملاحظة أن تشير وتدل على فكرة واحدة واضحة مُبينة، فعند الإشارة إليها تفهمها.
الطريقة أسلوب لتدوين (تقييد) الملاحظات وتنظيمها، نعم، تنظيمها ثم الانتفاع بها، فالعلة في تدوين الملاحظات أنك لا تنتفع بها لتشتتها، لم تنظمها حتى ترجع إليها وقت الحاجة، والطريقة تنظمها لك وتفهرسها وتربط بينها، ولِمَ الربط بنافعٍ؟
الجواب في الفقرة التالية!
فوائد الطريقة
أولها: أنها تُيسِّر سبيل الربط بين المعارف والأفكار، فتجعل بينها نسباً وصلات، كما تصل الأنساب بين القبائل. ومن هذا الربط تتولَّد معارف جديدة، كما يتولَّد النسل.
وثانيها: أنها تزيد في النجعة والإنتاج، إذ ترسم للكاتب طريقاً واضحاً يسلكه، فلا يضل ولا يحتار. وقد رأيتُ من نفسي أن أفرد يومين من كل أسبوع لهذا العمل، فأجد فيه لذة الإقبال وحلاوة النشاط.
وثالثها: أنها تحفظ الجهد من الضياع، فما تكتبه اليوم وإن لم تنتفع به في حينه، فهو ذخيرة لما يستقبل من الأيام. وفي هذا تعميق للفهم وترسيخ للعلم.
ورابعها: أنها تُعين على حل المعضلات الكبار، إذ تتيح للمرء أن يتأمل جزءاً يسيراً منها، ثم يرتقي إلى النظر في جملتها، كمن يصعد جبلاً فيرى من أعلاه ما لا يراه من أسفله.
وخامسها: أنها تنمو وتتسع بحسب الحاجة، كما ينمو الشجر ويمتد، لا كما تتكدس الأوراق وتختلط، كالشجرة المتاسكة المتلاحمة.
وسادسها: أنها تجعل الكتابة سهلة منسابة، إذ تُعين على تتبع خيط الفكر مهما طال الزمن. فإن من أصعب الأمور على النفس أن تلزم فكراً واحداً زمناً طويلاً، كما يصعب عليها أن تراقب نَفَسها دقائق معدودة. فكيف بمن يريد أن يكتب في موضوع واحد شهوراً طوالاً؟ إن هذه الطريقة تحفظ الأفكار حية نضرة، كما يحفظ الماء النبات.
أعجب فائدة أنها تولِّد أفكارًا جديدة من تلاقح الأفكار القديمة ثم تنشئ شبكة من الأفكار المترابطة، وهكذا تنتفع بما تقيد انتفاعًا عظيمًا.
برنامج Obsidian

برنامج أوبسيديان، برنامج تدوين ملاحظات سهل خفيف، عابر للتوزيعات cross-platform، أي يعمل على كل الأنظمة، لينكس وماك وويندوز وعلى الهواتف، أندرويد وآيفون، ويطبق طريقة (خزانة القصاصات) الآنف ذكره، ويستعمل لغة التنسيق المسماة MarkDown، ومن اسمها لغة تنسيق، تنسق بها النص فحسب، ولا تخف من كلمة (لغة)، فهي سهلة يسيرة نفصلها في مقال إن شاء الله، وبما أنه يتسعمل لغة MarkDown فإن ملاحظاتك مكتوبة في ملفات نصية وهي على حاسوبك. وعلى سهولته وخفته فعنده إضافات كثيرة تجعله برنامجًا يقارع عمالقة البرامج المدفوعة.
قوة البرنامج في تطبيقه طريقة (خزانة القصاصات) التي استفتحنا بها المقال، تنشئ الملاحظات وتربط بينها، ثم يظهر لك الملاحظات في مِبيان graph ترى فيه ملاحظاتك والروابط الخارجة منها وإليها، وسأريك كيف تفعل ذلك إن شاء الله.
انظر صورًا لأناس شاركوا شبكة ملاحظاتهم كيف تشابكت وترابطت فصارت كيانًا واحدًا. هذا الرجل بعد سنة من استعمال البرنامج:

وهذا بعد أسبوع من استعماله:

تثبيت واستعمال البرنامج
تثبيته سهل يسير، تذهب إلى موقعهم:
ثم تضغظ على Download في الزاوية العلوية وثم تثبيته:

بعد تثبيته وتشغيله (لأنه سهل يسير) شغله وستظهر لك الواجهة التالية:

يسألك هنا عن إنشاء الخزنة Vault، خزنة فيها كل ما ستكتبه من ملاحظات، وقد تنشئ خزنة وخزنتين وثلاث كما تحب. اضغط على الزر الإرجواني Create وسيظهر لك:

تكتب اسم الخزنة في أول خانة، أما في الثانية تختار المكان الذي ستكون فيه الخزنة، والخزنة ليست إلا مجلدًا folder فيه مجلدات فرعية وملفات تنتهي باللاحقة md. الخاصة بالملف المكتوب بلغة التنسيق MarkDown.
بعد الانتهاء من كتابة الاسم وتحديد المجلد اضغط على المربع الإرجواني وستُفتح لك واجهة البرنامج (قد لا تكون مطابقة للصورة لأني استعمل نسخة قديمة):

لتغيير مظهر البرنامج من البياض إلى السواد اضغظ على الإعدادات في أسفل الشاشة:

ثم اذهب إلى المظهر appearance:

وفي البداية اختر اللون، أبياض أم سواد
أول ملاحظة
وبعد تثبيته وتشغيله واختيار اللون فأنت جاهز لكتابة أول ملاحظة لك. لكتابة أول ملاحظة اضغط على إشارة القلم في أعلى الشاشة:

واكتب العنوان ثم اكتب محتوى الملاحظة، كما ترى في الصورة عنوان الملاحظة كان Home وثم أسفلها المحتوى، وهو مكتوب باللغة الإنجليزية لأن البرنامج لا يدعم العربية إلا بإضافة أنا مثبتها لك لكن في مقال تالٍ وشارح لك لغة التنسيق MarkDown، وليس في هذا المقال فقد طال، وقد عزت على سلسلة قصيرة عن البرنامج.
إنشاء رابط
ونختم المقال بكيفية إنشاء رابط يربط بين الملاحظات. الأمر سهل، هب أنك تكتب ملاحظة، لنسمها الملاحظة ألف، ثم كتبت ملاحظة ثانية اسمها الملاحظة باء، وتريد في الملاحظة باء أن تربطها بالملاحظة ألف، أن تنشئ رابطًا يدل على أن هذه الملاحظة (باء) ينبثق منها رابط إلى الملاحظة ألف، فكيف تفعل ذلك؟
ألم أقل لك أن لكل ملاحظة اسم فريد يميزها؟
ذلك لأجل الإشاءة إليها باسمها المميز لها عن غيرها. في الملاحظة باء سنكتب عنوان الملاحظة ألف بين مقوفين هكذا:
[[a]]
وهكذا سيخرج خيط يربط الملاحظة باء بالملاحظة ألف، وبهذا أنشأت رابطًا يربط بين ملاحظتين!
الخاتمة
ها قد وصلنا إلى نهاية المقال، وها أنا أخط بقلمي الخطوط الأخيرة لهذا المقال الشائق، وأرجو إني قد وفِّقت في الشرح.
وفي نهاية الأمر لا يسعني سوى أن أشكرك على حسن قراءتك لهذا المقال، وأني لبشر أصيب وأخطِئ، فإن وفِّقت في طرح الموضوع فمن اللّٰه عز وجل وإن أخفقت فمن نفسي والشيطان.
أرجو منك تقييم كفاءة المعلومات من أجل تزويدي بالملاحظات والنقد البناء في خانة التعليقات أو عبر حساب الموقع، والسلام عليكم ورحمة اللّٰه تعالى وبركاته.